في عالم الفتيات تتكاثر القصص وتزيد الأسرار التي تُحفظ في صندوق لا تطاله الأيدي ولا ترقبه العيون والأسماع، يختلف ذلك الصندوق من فتاة إلى أخرى فمنهن من تجعل من صديقتها ذلك الصندوق والذي تصب فيه كل ما يجول في عالمها الخاص، ومنهن من تحمل حقيبتها كمستودع لتلك الأسرار، ولكل فتاة صندوق تضع فيه ثقتها وحديث نفسها سواء بإدراك لذلك الإنتقاء وأحايين كثيرة بما يفرضه الهوى دون إدراك، فأيّ الصناديق أجدر بحمل تلك الخفايا؟ وما هو جديد الصناديق وفي أيّ الأودية تصب المصلحة؟
في إستطلاع لآراء بعض الفتيات كُشف الستار عن عالم إختفى تحت الضحك والنكتة واللباس وأخفت معالمه لمسات من المكياج، أو كان نصيب ساكنته ألم أورثها عزلة.
[] الصديقة الصدوقة..
تقول لطيفة طالبة جامعية: مما لا شك فيه أن الصديقة الصدوقة هي مستودع الأسرار، لاسيما إذا كان هنالك فارق عمري كبير بين الأم وبناتها، وأحيانا يكون أخي الأكبر هو حاضن أسراري بحكم أنني البنت الكبرى، فالفتاة فقط تحتاج إلى من يسمع لها.
وتوافقها الرأي أسماء طالبة جامعية كذلك ولكنها تتساءل: أين هي الصديقة الصدوقة التي تؤتمن على السرّ وتكون ناصحة لا مستطلعة فقط؟ يجب أن نتعلم أسلوب إنتقاء الأفضل في عالم يعجّ بمعسولي الكلام ومسمميّ الأفكار.
وبلمحة أسف تطلعنا -أسيل- على تجربتها الفاشلة في جعل صديقتها مستودع أسرارها وكيف أنها لم تحفظ السرّ بل أذاعت به بين زميلاتها مما جعلها تقول: حقا فقدت الثقة بكل أحد، ولم أجد أصدق من نفسي أكبت في داخلها آلامي وآمالي.
[] الورقة والقلم..
في حين تخالف هذا الرأي إبتهال طالبة جامعية أيضا بأنّ الورقة والقلم هما آمن صناديق الأسرار فهي تكتب كلّ ما في خاطرها وتبكي وتضحك لوحدها ثم تمزّق تلك الأوراق أو تحتفظ بها، وهذا ما إتفقت عليه معها أمل وعبير حيث تقولان في هذا الزمن لم يعد هنالك من تأمنه أكثر من أوراق تبثها شكواك ثم تدفن ذلك السر في قصاصاتها الممزقة.
ثم تتساءل أمل الغد عن حال فتاة لم تجد غير دفتر يومياتها تخاطبه ويقتلها صمته، لتقول: أيّ جحود لحقوق البنوّة نلاقيه، تقتلنا آليته ويبكينا البحث عن الحاضر الغائب -والدينا- ولن أخجل إن قلت حقا دفاترنا أكثر وفاء من أهلنا فعلى أقل تقدير يكفينا وجودها كلما طرأ علينا طاريء لا نقوى على مجابهته في حين كان والدينا في عالم آخر.
[] الحضن الدفيء..
أمي هي الحضن الدفيء لأسراري مهما بلغت حساسيتها، هكذا قالت -عهود- الطالبة في السنة الأخيرة من الجامعة لتلفت أسماعنا إلى حقيقة نتعامى عنها كثيرا أو تسرقها منا فوضوية الحياة وتبعاتها، وهي أثر الأم حينما تكون صندوق أسرار إبنتها، ووافقتها الرأي صديقتها حصة إذ تقول: إذا كانت الأم قريبة من بنتها فأعتقد أنه لا حاجة لصندوق غير قلب أمي الحنون، وهذا ما يحقق لي الراحة الدائمة في كل شيء في حياتي، فأمي تسمع حتى قصصي الساذجة، ودائما ما ينتهي حديثنا بضحكة وتوجيه، وهذا ما تحتاجه كل فتاة.
ومن جانب آخر تؤكد أم فيصل مديرة مدرسة أنّ أغلب المشاكل التي تواجهها الفتيات سواء نفسية أو أخلاقية أو غيرها كان العنصر الأقوى فيها حضور الأم الجسدي وغيابها التربوي.
[] وجدان...والصندوق الهاوية..
أما الصندوق الهاوية فهو الهاتف، إذ تقول وجدان طالبة الثانوية أنني وكأي فتاة إحتاج إلى من يسمعني وفي حال غياب التواصل الأسري وتنحي الأم عن واجبها بحثت عن المخرج فإذا بي أسقط في عالم المعاكسات لأجعل من الذئب صندوقا مؤتمنا على أسراري، وجدت ما أريد وأخرجت ما في قلبي لأقع في الفخّ لولا أن تداركني الله برحمته، لأستبدل ذلك الظلام بنور سجادتي التي أبثّها أسراري ودموع ندمي، فكل طريق خاطيء لن تسلم نهايته.
وتطرق أمل برأسها متذكرة تجربتها القاسية مع الصندوق الذئب حيث وصلت إلى مرحلة اليأس من أن هناك مخرج فتقول: لقد وقعت في شراك المكالمات الهاتفية بحكم التفكك الأسري الذي أعيشه فإنفصال والدتي عن والدي جعلني أعيش بلا مربي، فقدت من يحتوي أسراري كأي فتاة فكنت ضحية وكدت أن انزلق لولا أني تجرأت على زميلة في كليتي توسمت فيها الخير وبقوة أجبرتها أن تسمع مأساتي، حتى أني قلت لها: أنا في ذمتك فأعطني من وقتك، عندها سمعتني ووجهتني، حتى من أجمل ما سمعت منها أن قالت: قولي...{إنما أشكو بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون}[يوسف:86]، وقالت لي: كل مرحلة من الخطأ أهون مما يليها، كوني قوية وتوقفي الآن واسألي الله حسن العاقبة، في ذلك اليوم أحسست بقيمة جديدة لي وأن هناك من يسمعني لأنه ناصح لي، وندمت على ثقتي بمن يريدني لأجل نفسه وهواه.
[] غرائب الأسرار..
وفي هذا الصدد تقول الأستاذة هند: إنني أتعجب من غرائب الأسرار التي تبوح بها لي بعض الطالبات وأتساءل أين الأم من احتواء بنتها حتى لا تكشف الستار عن أحاديث تكاد تنهي مستقبل الفتاة، وهل ستكون كل معلمة ناصحة لطالبتها أو حتى مستمعة إيجابية، لذا يجب أن ننتبه خصوصا في زمن كثرت فيه التوجهات والأفكار وإنفتح العالم.
[] ظالم ومظلم..
وتؤكد على ذلك مشرفة إجتماعية في إحدى المدارس أنّ أكثر ما يواجهها اليوم من الطالبات صندوق إعتبرته ظالم ومظلم إن لم نتعامل معه بوعي أكثر وحذر أشد، وهو منتديات الإنترنت والتي تنتهي بغرف المحادثة والتعلق غير المشروع خصوصا مع توفر بيئة فقدان الموجّه والفراغ العاطفي.
وتحوّل حديثها إلى شفقة على تلك الفتاة التي سألتها: أستاذتي كيف أشتكي لأمي وهي الجاني؟ وأبي هو الجلاد؟ فأنا ضحيّة صراع أسري ومستقبل مجهول لا أعرف نهايته؟
[] أمي صندوق خدعت به:
تقول إيمان جعلت من أمي صندوقا لأسراري وقلت لها يوما عن خطأ فعلته أطلب توجيهها، وحقا إستمعت إلي واطمأنت نفسي وعلّقت النصيحة قلادة في عنقي، لتنهار تلك الصورة المثالية لأمي لما سمعتها تقص ما قلته لأبي ليضع سوط توبيخه وسما في قلبي لن أنساه.
وتقول م.ع ذات يوم قابلتني إبنة الجيران وزميلتي في المدرسة، وقالت لي: غريبة ما نجحت في الرياضيات، أمك تقول إستيعابها بطيء! أحسست بصدمة فلا أحد يعلم برسوبي غير أمي، ولما تتبعت الأمر وجدت أن هناك وكالة إسمها بقولك بس لا أحد يدري، وهكذا من واحدة إلى أخرى، وهذا هو السهل الممتنع عند النساء.
أما أم ريان فتستنكر قائلة: كيف تريد الأم تحقيق الثقة بينها وبين أبنائها وهي صندوق لا باب له، فجميع أسرار أبنائها مكشوفة أمام الآخرين، والأعظم من ذلك هو عندما تكشف الأم أوراق إبنتها أمام معلمتها ظناً منها أنها تخدم إبنتها فلست أنسى تلك الطالبة التي أجهشت بالبكاء لما علمت أن أمها روت لمعلمتها مواقفها من المشاكل الأسرية التي تعيشها، وكأن الأم تطلب إستعطاف المعلمة وما علمت أنها كسرت بريق الصورة التي رسمتها البنت في المدرسة، وبعدها تحولت شخصية تلك الطالبة إلى إنطوائية بسبب ذلك الموقف.
[] نقاش عقيم..
أما عن نوعية الأسرار وإختلاف ردة فعل المتلقي تجاهها حسب ما يوافق هواه فتقول هند: أنا أبوح لأمي بأسراري ولكن فقط التي تناسب هواها، أما تلك التي تخالف ما تريد فأحاول كتمانها خوفا مما يتبعها من نقاش عقيم ينتهي بمشكلة تكسوها الدموع.
وتؤكد ذلك أسيل بأنها لا تثق بغير أمها ولكن حاجز الخوف يبقى حائلا دون الصراحة بينهما، فتقول أمي شخصيّتها قويّة وكلنا نهابها، ولا أملك الجرأة لإقحامها في قضاياي الخاصة.
أما نوره طالبة في المرحلة الجامعية فتؤكد على الصندوق المعاصر لأغلب الفتيات وهو جهاز الكمبيوتر، فتقول: للتعرف على الفتاة بآمالها وآلامها ما عليك سوى التقلب بين ملفات الكمبيوتر الشخصي لها لتكشف عالما من الخصوصية وصندوقا من الأسرار إختلفت مقتنياته.
[] رؤية نفسية..
وتعقب على ذلك هدى أخصائية نفسية بقولها:
مما لا شك فيه أنّ إحدى الحاجات النفسية للفتاة هي الحاجة لمستمع وموجّه، وأن هنالك جانب من الخصوصية تظل الفتاة تحتفظ به ولا تكشف عنه إلا لمن تطمئن له، لذلك ينبغي في الدرجة الأولى أن تتحقق الثقة والصراحة بين الأم واإبنتها، لكي تكون هي المحضن الأول لأسرارها، وإن لم يتحقق ذلك فعلى الوالدين تثقيف البنت وإعطائها التوجيهات الإجتماعية اللازمة لتحقيق الأمان النفسي والإجتماعي فالحل ليس الكبت ولكن في تقنين الفضفضة، أو كشف الأسرار، وتوفير الحصانة اللازمة لإختيار الشخص الموثوق به.
أما إذا لم يجد الشخص من يحفظ سرّه وخاف عليه فالأولى به ألا يخبر به أحدا كما قال الأولين:
إذا ضاق صدر الفتى عن حمل سره *** فصدر الذي يُستودع السر أضيق
[] تجربة تربوية:
تقول أم علي: لقد عودت أبنائي أن أكون قريبة منهم، وقد تعجبت مني الكثيرات أنني أنزل لإهتمامات أبنائي وأحادثهم بالطريقة التي تروق لهم حتى أني ألعب معهم الكرة ولهذا حققت شيئا كبيرا هو وجود الصراحة بيننا ومن الجوانب التربوية التي وجدت أهميتها هو التأكيد على حقيقة كلنا واجهناها وهي أنه من الطبيعي أن يمر الشخص بمشكلة فأنا أقول لهم: كل واحد يمر بمشكلة أو قد يخطيء أحيانا لكن أعدكم بأن نساعد بعضنا لتجاوز أي مشكلة فإني أكون راضية إذا كنتم صرحاء معي حتى بمشاكلكم، ولهذا يعيش أبنائي ولله الحمد بنفسيات مطمئنة، وهم أمامي كصفحات مفتوحة.
بينما ترى أم عبد العزيز أنه من الواجب على الأم أن تكون أخصائية نفسية لأبنائها ذكورا وإناثا وتتفهم متغيرات العصر لتستطيع أن تحتويهم وتحافظ على خصوصية الأسرة، كما يجب المحافظة على عنصر الحب والطمأنينة في جو الأسرة ليكون البيت وقيمه هو الصندوق الآمن للأسرار.
[] أخطأت فجنيت من العنب الشوك..
أخطأت فجنيت من العنب الشوك هكذا قالت أم أحمد واصفة تجربتها في التربية إذ تقول: أبنائي هم كالعنب زرعتهم لأستمتع بحلاوتهم ولكني فرّطت في الزرع فجنيت الشوك المؤلم والذي أدمى قلبي بلا رحمة، قد أختصر معاناتي بإبنتي حيث أني لم أكن ألتفت للحاجات النفسية لها، كنت أخرج بلا حساب، شخصيتي إجتماعية لذا أحب الزيارات، وقت فراغي كله للأقارب والجيران والمناسبات، ونسيت أن هناك فلذة كبد تحتاج بضع دقائق من وقتي، كثيرا ما تتأفف من خروجي وغالبا ما تطالبني بجلسة أسرية، وكنت لا ألقي لها بالا ظنا مني أني قد حفظتها داخل أسوار بيتي وأني مطمئنة عليها، مرت إبنتي بفترة إضطراب نفسي، وللأسف لم ألتفت لذلك وإذا سأل والدها عنها سبقتها بالإجابة لأقول: هي تحب النوم، شكلها ما طلعت إجتماعية على أمها، الآن فقط فهمت سرّ النظرة الدامعة التي تعقب بها إبنتي بعد كل سؤال، لقد كانت مفاجئتي أني دخلت يوما عليها وهي منسجمة بمكالمة هاتفية تطرقت فيها لأدق تفاصيل حياتنا، وكيف أن هذا الشخص الذي تكلمه كان لها طوق النجاة في بيت غافل لا مجال فيه لصدر أم يحتمل هموم الأبناء، والأدهى أن ذلك الشخص كان رجلا، استيقظت..
عندها استيقظت من غفلتي، لأدرك عظيم خطئي في حق أسرتي، جلست يومها مع إبنتي وأنا لا أعرف أي جام غضب أصب عليها لكنها بادرتني بقولها: أنتِ السبب، لمن أتحدث، لمن أبوح بألم يشتعل في داخلي؟، أخطأت بداية، وأردتك قريبة مني ولكن لم أجدك فتماديت، فقط كنت أحتاج من يسمعني، أمي كدت أن أقع ضحية رغما عني، فقد وجدت من يسمعني بمعسول كلامه، ولكن رحمة الله جعلتك تستيقظين، في تلك اللحظة تمنيت أن الأرض طوتني، ومنذ ذلك اليوم وأنا ملازمة لأبنائي وأسرتي، وأتلمس حاجاتهم النفسية قبل كل شيء، لعل الله في مستقبل الأيام يغفر لي ذنبي في التقصير، لقد ساعدت ابنتي لأنتشلها من الهاوية التي دفعتها أنا لها وأصبحت لها صندوقا لأسرارها بكل حنان، وعاهدت نفسي أن اذكر القصة للتذكير بأهمية الإحتواء النفسي للأبناء دون معرفة شخصيتي الحقيقية.
أم نايف..
عند سؤالها عن لجوئها للتقاعد المبكر، وترك التدريس أجابت: الآن أبنائي بحاجتي أكثر من حاجة المدرسة لي، لما كانوا صغارا كان الأمر أسهل ولكن اليوم هم بحاجة لجلوسي معهم ومناقشة إهتماماتهم ومشاكلهم، فأنا أحتملها بروح هادئة لا توترها مشاغل العمل أفضل من بحث أبنائي عن غرباء يحتوون أحاديثهم قد لا يكونوا أمناء، فمتغيرات العصر تدفعنا لأن نكون أكثر قربا من أبنائنا لنكسبهم، حتى أني قلت لأبنائي أني تركت الوظيفة للوظيفة الأكبر وهي أنتم، فهاتوا كل ما عندكم فقد تفرغت لأحاديثكم، والحمد لله أجد أني إحتويت أسرتي إلى حد كبير.
¤ ومضة..
هذه بعض الصناديق التي تختبيء فيها أسرار الفتيات، فما هو الجديد منها في مقتبل الأيام؟ وأيها أكثر أمانا في ظل التسارع الحضاري والسباق التقني؟!!
وتلك هي بعض تجارب الأمهات فهل ندرك الأمانة ونجعل صدر كل أم صندوقا آمنا للأبناء!!
الكاتب: هند الزميع.
المصدر: موقع رسالة المرأة.